جنوب أفريقيا، رفح، ومحكمة العدل- هل تتجنب إسرائيل الإدانة بالإبادة الجماعية؟

المؤلف: د. محمود الحنفي11.16.2025
جنوب أفريقيا، رفح، ومحكمة العدل- هل تتجنب إسرائيل الإدانة بالإبادة الجماعية؟

تقدّمت جمهورية جنوب أفريقيا باستئناف عاجل أمام محكمة العدل الدولية، مطالبة إياها بالتدخل الفوري للنظر في التداعيات الخطيرة لقرار إسرائيل بتوسيع نطاق عملياتها العسكرية في مدينة رفح الفلسطينية المكتظة بالنازحين. وتسعى جنوب أفريقيا إلى الحصول على قرار ملزم من المحكمة يمنع إسرائيل من ارتكاب المزيد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر.

يأتي هذا التحرك القانوني في أعقاب تصاعد وتيرة القلق الدولي إزاء احتمال شن الجيش الإسرائيلي هجومًا واسع النطاق على رفح، التي باتت تشكل الملجأ الأخير لأكثر من 1.4 مليون فلسطيني نازح، غالبيتهم العظمى من اللاجئين المسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والذين فروا من ديارهم في مناطق شمال ووسط قطاع غزة جراء القصف والعمليات العسكرية المتواصلة.

وقد أعرب العديد من المسؤولين الأمميين والدوليين، من بينهم مسؤولون أمريكيون وأوروبيون وإقليميون وعرب، عن بالغ قلقهم حيال الوضع الإنساني المتردي في رفح، وحذروا من مغبة شن عملية عسكرية فيها. لكن هذه التحذيرات المتكررة لم تسفر عن أي ضغط حقيقي على الحكومة الإسرائيلية لوقف خططها.

تؤكد التجارب السابقة والراهنة أن الموقف الأمريكي تجاه هذه القضية يتسم بالثبات والوضوح، حيث دأبت الولايات المتحدة على استخدام حق النقض (الفيتو) لإحباط أي مشروع قرار ينتقد إسرائيل أو يفرض عليها ضغوطًا.

والجدير بالذكر أن التحذير الأمريكي لإسرائيل لم يكن قاطعًا وحاسمًا بما يكفي لردعها عن تنفيذ العملية العسكرية في رفح. وفي الوقت نفسه، تواصل إدارة الرئيس بايدن جهودها الحثيثة لتذليل كافة العقبات في الكونغرس الأمريكي من أجل تزويد إسرائيل بكميات إضافية من الذخائر والأسلحة المتطورة. كما أن التحذير الأمريكي يقتصر على الدعوة إلى "احترام قواعد القانون الدولي وحماية المدنيين"، دون أن يتضمن أي آلية عملية أو خطوات ملموسة لضمان ذلك.

وتتركز المخاوف الدولية بشأن العملية العسكرية المرتقبة في رفح على حجم الخسائر البشرية الفادحة المتوقعة في صفوف المدنيين العزل، بالإضافة إلى مصير النازحين الذين لا يجدون مكانًا آمنًا يلجأون إليه هربًا من القصف الإسرائيلي العشوائي. وقد عبّر جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن قلقه البالغ حيال هذا الأمر قائلًا: "إلى أين سيذهب سكان رفح؟ هل سنرسلهم إلى القمر؟".

ويأتي التهديد الإسرائيلي بشن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد سكان رفح قبل أيام معدودة من الموعد النهائي الذي حددته محكمة العدل الدولية لإسرائيل لتقديم تقرير مفصل عن مدى التزامها بالتدابير التي اتخذتها لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.

وفي هذا السياق الحساس، تبرز جملة من التساؤلات الهامة التي تسلط الضوء على مسار التقاضي ومستقبله، ومن أبرزها:

هل ستقدم إسرائيل تقريرًا وافيًا إلى محكمة العدل الدولية بحلول الموعد المحدد في 26 فبراير/شباط 2024، يشرح التدابير التي اتخذتها لمنع ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية؟ وهل لديها إجابات مقنعة أساسًا، أم أنها تعاملت باستخفاف واستهتار مع قرار المحكمة؟ وما هي التداعيات المحتملة للتصعيد الإسرائيلي في رفح على مسار المحاكمة، وما الذي قد يتضمنه التقرير المرتقب؟

من الواضح، بناءً على المعطيات والمؤشرات الميدانية الملموسة، أن إسرائيل لم تتخذ أي تدابير جدية ولم تلتزم بطلب محكمة العدل الدولية. فالحصار الخانق المفروض على قطاع غزة لا يزال مستمرًا، وعمليات القتل والإعدام الميداني تتواصل دون هوادة، واستهداف طواقم الإسعاف والطواقم الطبية مستمر، وعدد الشهداء من المدنيين الأبرياء لا يزال مرتفعًا بشكل مأساوي. ومع ذلك، فمن المتوقع أن تقدم إسرائيل تقريرًا شكليًا كي لا تبدو وكأنها تنتهك قرار المحكمة بشكل صارخ.

ولكن من المرجح أن يكون مضمون التقرير الإسرائيلي فارغًا ومضللًا، وسيتضمن تبريرات واهية لسلوكها الإجرامي بحق سكان قطاع غزة المحاصر. وقد يشكل ردها محاولة لتسييع القضية برمتها والتهرب من المسؤولية. ومع ذلك، فإن هذا الرد سيُعتبر من الناحية الشكلية احترامًا لقرار المحكمة بضرورة تقديم تقرير.

وفيما يتعلق بطلب جنوب أفريقيا الجديد المقدم إلى محكمة العدل الدولية في 13 فبراير/شباط 2024 بشأن الوضع في رفح، فمن المتوقع أن تتفاعل المحكمة معه، ولكن ليس بالسرعة التي تأملها جنوب أفريقيا. أما إسرائيل، فهي تنتظر رد المحكمة على طلب جنوب أفريقيا لتبني على ضوء ذلك موقفها وتصرفاتها. بمعنى آخر، من المستبعد أن تتجاهل إسرائيل طلب المحكمة الجديد المنتظر بشكل كامل.

هل ستقتنع محكمة العدل الدولية بالرد الإسرائيلي؟ هذا الأمر مفتوح للنقاش والأخذ والرد، على الرغم من أنه يجب أن يكون محسومًا بالنظر إلى حجم الجرائم المرتكبة ضد السكان المدنيين العزل.

تجدر الإشارة إلى أن هناك اعتبارات عديدة تؤثر في اتخاذ قرار من جانب المحكمة، ولعل أهمها هو أن الإرادة السياسية الدولية هي التي تحدد في نهاية المطاف مسار العدالة، حتى لو كان القضاة يتمتعون بالنزاهة المطلقة. كما أن المحكمة، شأنها شأن أي محكمة وطنية، تحتاج إلى السلطة التنفيذية لتطبيق الأحكام الصادرة عنها.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا بأن موقف الدول العربية والإسلامية، وخاصة الدول التي لها صلة مباشرة بغزة، ليس بالقدر الكافي الذي يوفر ضمانة وحصانة كافية لحماية سكان قطاع غزة من جريمة الإبادة الجماعية، حتى لو اتخذت المحكمة قرارًا حاسمًا ضد إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بإدخال المساعدات الإنسانية اللازمة والكافية.

إذن، إذا لم تقتنع المحكمة بالجواب الكتابي لإسرائيل، فقد تحيل الأمر بعد ذلك إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي يجب عليه (نظريًا على الأقل) أن يتخذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ قرار محكمة العدل الدولية الاحترازي.

وهنا يبرز السؤال التالي: هل سيتخذ مجلس الأمن القرار المناسب حيال دولة ترفض الانصياع لقرار محكمة العدل الدولية، أم أن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض (الفيتو) لمنع أي إجراء بحق إسرائيل، الدولة المتهمة رسميًا أمام محكمة العدل الدولية بجريمة الإبادة الجماعية؟

تؤكد السوابق التاريخية والحاضرة أن السلوك الأمريكي تجاه هذه القضية واضح وثابت، حيث دأبت الولايات المتحدة على استخدام حق النقض ضد أي مشروع قرار ينتقد إسرائيل أو يفرض عليها ضغوطًا.

أما السؤال الأخير الذي يطرح نفسه في هذا السياق فهو: ماذا لو وقفت الولايات المتحدة فعلًا في طريق العدالة الدولية ووفرت مظلة حماية جديدة لإسرائيل من المساءلة الدولية؟ وما هو مستقبل الأمم المتحدة التي عجزت عن تحقيق مقاصدها وفشلت في الامتحان الأخلاقي المتعلق بمنع جريمة الإبادة الجماعية ضد سكان غزة؟ وهل ستصبح الأمم المتحدة شاهدًا على جريمة إبادة جديدة، أم أنها ستعيد الاعتبار لمبادئها وتُحقق العدالة لسكان غزة المظلومين؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة